ما وراء الشاشات: صناعة المحتوى بين الحرية والمسؤولية
في عصر تتسارع فيه المسافات وتتعدد فيه الأصوات الرقمية، لم تعد الحرية على الإنترنت مجرد حق، بل مسؤولية أخلاقية. صانع المحتوى الرقمي هو من ينتج محتوى جذابًا ومنتظمًا يؤثر في جمهور محدد، حيث تكمن القيمة الحقيقية في عمق التأثير لا في اتساع الانتشار. هؤلاء الأفراد يشكلون جيل العصر الرقمي، يحوّلون المعلومات إلى أدوات للتواصل والتأثير الاجتماعي والثقافي، ويبنون حضورًا رقميًا مؤثرًا ومستدامًا. ومع تزايد دورهم، تصبح الموازنة بين حرية التعبير والمسؤولية الأخلاقية ضرورة لضمان استخدام هذه الحرية بشكل واعٍ دون فوضى أو تضليل .استنادًا إلى تقرير أعدّته اليونسكو بمناسبة الأسبوع العالمي للدراية الإعلامية والمعلوماتية تحت عنوان «خفايا الشاشات: رؤى من عالم صانعي المحتوى الرقمي»، يتضح أن صانعي المحتوى أصبحوا من أبرز المؤثرين في تشكيل الوعي وتوجيه الرأي العام.
دور صناع المحتوى والتحديات الرقمية
مع تزايد الدور الرقمي لصانعي المحتوى، تبرز أسئلة جوهرية حول المسؤولية الأخلاقية، ودقة المعلومات، وحدود حرية التعبير. فصانع المحتوى يعيش في بيئة تحكمها الخوارزميات، وتغذيها المنافسة على جذب الانتباه. وبينما تمنح المنصات الاجتماعية فرصًا واسعة للوصول إلى الجمهور، فإنها تفرض في الوقت نفسه ضغوطًا خفية على صانعي المحتوى لإنتاج محتوى يثير المشاعر بدلًا من إثراء الفكر.
تشير بيانات اليونسكو إلى أن حوالي 32% من صانعي المحتوى تعرضوا لخطاب كراهية على منصاتهم، بينما 67% أكدوا أن المنصات توفر إرشادات واضحة للمحتوى، لكن الخوارزميات غالبًا ما تفضل المحتوى المثير عاطفيًا على المحتوى الموثوق، مما يجعل النجاح الرقمي مرتبطًا بعدد الإعجابات والمشاهدات أكثر من مستوى المصداقية أو القيمة الفكرية، ما يدفع بعض الصانعين إلى السعي وراء “الترند” حتى وإن كان سطحيًا.
المصادر والتحقق
يعتمد صناع المحتوى على التجارب الشخصية والبحث الذاتي والمقابلات مع مختصين كمصادر للمعلومات، بينما تأتي وسائل الإعلام التقليدية والمصادر الحكومية في المرتبة الأقل اعتمادًا. ورغم إدراك معظم المشاركين لأهمية التحقق من المعلومات قبل النشر، إلا أن الإيقاع السريع وضغط النشر يؤديان أحيانًا إلى تداول معلومات غير دقيقة أو مضللة. وبحسب التقرير، أكثر من نصف المشاركين لا يقومون دائمًا بفحص المصادر أو تقييمها بشكل كامل، مما يزيد من مخاطر انتشار المعلومات المغلوطة.
المعرفة بالقوانين والمعايير
تشير الدراسة إلى أن 41.2% من صانعي المحتوى يعرفون المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المتعلقة بحرية التعبير، لكن فهمهم للحقوق المترتبة عليها غالبًا محدود. بينما ثلث المشاركين فقط لديهم معرفة شاملة بالقوانين المتعلقة بحرية التعبير وحقوق النشر والتشهير، و32.4% لديهم معرفة جزئية، والبقية لا يمتلكون أي معرفة. هذا يوضح فجوة في الوعي القانوني بين صانعي المحتوى، مما يجعل التدريب المستمر ضروريًا.
المعضلات الأخلاقية
يواجه صانعو المحتوى تحديات أخلاقية متكررة، خاصة عند معالجة موضوعات حساسة كالدين والسياسة وقضايا الهوية. ففي الوقت الذي يرى بعضهم أن حرية التعبير يجب أن تكون مطلقة، يؤمن آخرون بضرورة ضبطها لحماية الأفراد والمجتمعات من خطاب الكراهية. هذه المعضلة تعكس طبيعة العصر الرقمي، الذي يمنح الجميع صوتًا لكنه لا يمنحهم الوعي الكافي بكيفية استخدامه.
إضافة لذلك، يشكل الضغط التجاري أحد أبرز التحديات، إذ يُطلب من بعض الصانعين الترويج لمنتجات لا يستخدمونها فعليًا، مما يؤثر على مصداقيتهم. كما يعاني العديد من صانعي المحتوى من ضغوط نفسية واجتماعية بسبب البيئة الرقمية المشحونة بالتنمر والتهديدات، خاصة النساء والأقليات، ما يؤدي أحيانًا إلى الرقابة الذاتية وتقليص التنوع في الأصوات الحرة.
أشكال المحتوى والمنصات
يتركز المحتوى الأكثر شيوعًا على الموضة والجمال، السفر والطعام، الترفيه، الكوميديا، والتسوق. أما المنصات الأكثر استخدامًا فتشمل إنستغرام، فيسبوك، تيك توك، ويوتيوب. ويستخدم كثير من صانعي المحتوى مزيجًا من الفيديوهات، التوصيات، المدونات المرئية، والعروض البصرية. وبينما يسمح هذا التنوع بالوصول إلى جمهور واسع، لكنه يفرض أيضًا تحديات في الحفاظ على المصداقية والجودة المهنية.
التدريب والموارد
أكثر من نصف المشاركين في التقرير على علم بوجود برامج تدريبية في مجال الدراية الإعلامية والمعلوماتية، لكن المشاركة فيها محدودة. تعود أسباب عدم المشاركة إلى الانشغال، والاعتقاد بعدم جدوى البرامج، أو عدم ملاءمة المحتوى التدريبي. هذا يشير إلى الحاجة الملحة لتوفير برامج مرنة، عملية، وموجهة بشكل أكبر لاحتياجات صانعي المحتوى في بيئاتهم الرقمية.
الآثار الاجتماعية والإيجابية
رغم التحديات، هناك جانب مشرق، حيث يستخدم صناع المحتوى منصاتهم لنشر الوعي حول قضايا إنسانية، صحية وبيئية، ويعملون على بناء مجتمعات متعاطفة ومترابطة. يوضح التقرير أن المحتوى الإنساني الصادق، الذي يعتمد على المعرفة والمصداقية، يمكن أن يترك أثرًا حقيقيًا دون الحاجة إلى إثارة أو تحفيز عاطفي سلبي.
اصنع بإحساس، أبدِع بوعي… فالعالم يحتاج من يُضيء الشاشة بالمعنى
في عصر تتسارع فيه المعلومة وتتكاثر الأصوات الرقمية، يصبح صانع المحتوى الرقمي بمثابة باحث في فضاء المعرفة، يحدد مسار وعي الجمهور ويوجه طريقة فهمهم للعالم. لذا، تبرز أهمية تعزيز الدراية الإعلامية والمعلوماتية بين صانعي المحتوى والجمهور، وتطوير أدوات سهلة للتحقق من الحقائق والمصادر، ورفع مستوى الوعي بالقوانين والمعايير الأخلاقية المتعلقة بحرية التعبير وحقوق النشر. إضافة إلى ذلك، تعد الشفافية في خوارزميات المنصات الرقمية حجر الزاوية لضمان توازن بين حرية التعبير وحماية الجمهور من التضليل والمحتوى المؤذي. فصناع المحتوى الرقمي اليوم ليسوا مجرد ناقلين للمعلومات، بل علماء رقميون يصنعون المعرفة، واستثمارنا في وعيهم الأخلاقي والمهني هو استثمار في مستقبل أكثر وعيًا وإنسانية، حيث تُستخدم الحرية لبناء الحقيقة لا لتشويهها، ولخلق أثر إيجابي قائم على المعرفة بدلاً من الانفعال أو الجدل.
وفي هذا السياق، تؤمن جامعة ميدأوشن أن صناعة المحتوى اليوم لا تقوم فقط على الإبداع، بل على الوعي والمسؤولية أيضًا، فالعالم الرقمي يتطور بسرعة، وصانع المحتوى أصبح جزءًا مؤثرًا في تشكيل فكر المجتمعات واتجاهاتها.
ومن هذا المنطلق، تعمل الجامعة على إعداد طلبتها ليكونوا قادرين على التعامل مع هذا الواقع بوعي وفكر نقدي، من خلال برامج تجمع بين التعليم المرن والمحتوى العملي في مجالات الإعلام، والإدارة، والتكنولوجيا، وريادة الأعمال.
هدفنا أن نُخرّج جيلًا يفكر، يحلل، ويصنع الفرق بذكاء ومسؤولية، ولا يكتفي بالاستهلاك بل يشارك في صناعة المعرفة وتوجيهها لما يفيد مجتمعه.
في النهاية، تبقى الحرية والإبداع قيمتين أساسيتين، لكنهما لا يكتملان إلا حين يقودهما الوعي ويضبطهما الإحساس بالمسؤولية.